فصل: سئل: عمن يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره مع علمه أن المغتاب بريء؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وقال ـ رحمه الله تعإلى ‏:‏

فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض ما يقولون، لكن يري أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنـه، فيري موافقتهم مـن حسن المعاشرة وطيب المصاحبة، وقـد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم‏.‏

/ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتي‏.‏ تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول‏:‏ ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله‏.‏ ويقول‏:‏ والله إنه مسكين، أو رجل جيد؛ ولكن فيه كيت وكيت‏.‏ وربما يقول‏:‏ دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضمًا لجنابه‏.‏ ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقًا، وقد رأينا منهم ألوانًا كثيرة من هذا وأشباهه‏.‏

ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه، فيقول‏:‏ لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان، لما بلغني عنه كيت وكيت، ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده‏.‏ أو يقول‏:‏ فلان بليد الذهن قليل الفهم، وقصده مدح نفسه، وإثبات معرفته، وأنه أفضل منه‏.‏

ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين‏:‏ الغيبة، والحسد‏.‏ وإذا أثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح؛ ليسقط ذلك عنه‏.‏

ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب، ليضحك غيره /باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به‏.‏

ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول‏:‏ تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت‏؟‏‏!‏ ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت‏؟‏ وكيف فعل كيت وكيت‏؟‏ فيخرج اسمه في معرض تعجبه‏.‏

ومنهم من يخرج الاغتنام، فيقول‏:‏ مسكين فلان، غمني ما جري له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به‏.‏ وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه‏.‏

ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر‏.‏ والله المستعان‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل مقبول القول عند الحكام يخرج للفرجة في الزهر في مواسم الفرج، حيث يكون مجمع الناس، ويري المنكر ولا يقدر على إزالته، وتخرج امرأته ـ أيضًا ـ معه، هل يجوز ذلك‏؟‏ وهل يقدح في عدالته‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التي يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار، إلا لموجب شرعي‏:‏ مثل أن يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لابد فيه من حضوره، أو يكون مكرهًا‏.‏ فأما حضوره لمجرد الفرجة، وإحضار امرأته تشاهد ذلك، فهذا مما يقدح في عدالته ومروءته إذا أصر عليه‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن بلد ‏[‏ماردين‏]‏ هل هي بلد حرب أم بلد سلم‏؟‏ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا‏؟‏ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم في ذلك‏؟‏ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله‏.‏ دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ‏[‏ماردين‏]‏ أو غيرها‏.‏ وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة، سواء كانوا أهل ‏[‏ماردين‏]‏، أو غيرهم‏.‏ والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه، وجبت الهجرة عليه‏.‏ وإلا استحبت ولم تجب‏.‏

ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك، بأي طريق أمكنهم، من تغيب، أو تعريض، أو مصانعة‏.‏ فإذا لم يمكن إلا بالهجرة، تعينت‏.‏

ولا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض /أهل ‏[‏ماردين‏]‏ وغيرهم‏.‏

وأما كونها دار حرب أو سلم، فهي مركبة‏:‏ فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين‏.‏ ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه‏.‏

 

وقال ـ رحمه الله تعإلى ‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

من أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين، وولي أمر المؤمنين، نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته،بإقامة فرض الدين وسنته ـ أيده الله تأييدًا يصلح به له وللمسلمين أمر الدنيا والآخرة، ويقيم به جميع الأمور الباطنة والظاهرة،حتى يدخل في قول الله تعإلى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏الحـج‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وفي قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ إمام عادل‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى آخر الحديث‏.‏ وفي قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏/ ‏(‏من دعا إلى هدي، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء‏)‏‏.‏ وقد استجاب الله الدعاء في السلطان، فجعل فيه من الخير الذي شهدت به قلوب الأمة ما فضله به على غيره‏.‏

والله المسؤول أن يعينه، فإنه أفقر خلق الله إلى معونة الله وتأييده، قال تعإلى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَي لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وصلاح أمر السلطان بتجريد المتابعة لكتاب الله وسنة رسوله ونبيه، وحمل الناس على ذلك، فإنه ـ سبحانه ـ جعل صلاح أهل التمكين في أربعة أشياء‏:‏ إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر‏.‏ فإذا أقام الصلاة في مواقيتها جماعة ـ هو وحاشيته وأهل طاعته ـ وأمر بذلك جميع الرعية، وعاقب من تهاون في ذلك العقوبة التي شرعها الله، فقد تم هذا الأصل، ثم إنه مضطر إلى الله ـ تعإلى ـ فإذا ناجي ربه في السحر واستغاث به، وقال‏:‏ يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت‏.‏ برحمتك أستغيث، أعطاه الله من التمكين ما لا يعلمه إلا الله، قال الله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66 ـ 68‏]‏‏.‏

ثم كل نفع وخير يوصله إلى الخلق، هو من جنس الزكاة‏.‏ فمن أعظم العبادات سد الفاقات، وقضاء الحاجات، ونصر المظلوم، وإغاثة الملهوف، والأمر بالمعروف، وهو الأمر بما أمر الله به ورسوله، من العدل والإحسان، وأمر نوائب البلاد وولاة الأمور باتباع حكم الكتاب والسنة، واجتنابهم حرمات الله، والنهى عن المنكر، وهو النهى عما نهى الله عنه ورسوله‏.‏

وإذا تقدم السلطان ـ أيده الله ـ بذلك في عامة بلاد الإسلام، كان فيه من صلاح الدنيا والآخرة له وللمسلمين ما لا يعلمه إلا الله‏.‏ والله يوفقه لما يحبه ويرضاه‏.‏

/ وقال شيخ الإسلام ـ رضي الله عنه وأرضاه ‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات والهدي، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله بالهدي ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وأيده بالسلطان النصير، الجامع معني العلم والقلم للهداية والحجة، ومعني القدرة والسيف للنصرة والتعزير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة خالصة أخلص من الذهب الإبريز، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، شهادة يكون صاحبها في حرز حريز‏.‏

أما بعد، فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة /الإلهية والآيات النبوية، لا يستغني عنها الراعي والرعية، اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ثبت عنه من غير وجه في صحيح مسلم وغيره‏:‏ ‏(‏إن الله يرضي لكم ثلاثًا‏:‏ أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم‏)‏‏.‏

وهذه الرسالة مبنية على آيتين في كتاب الله، وهي قوله تعإلى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَإلىوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58، 59‏]‏، قال العلماء‏:‏ نزلت الآية الأولي في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلىن لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله‏.‏ فإذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله؛ لأن ذلك من طاعة الله /ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله‏.‏ قال تعإلى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُواْ على الْبرِّ وَالتَّقْوَي وَلاَ تَعَاوَنُواْ على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة، والولاية الصالحة‏.‏

 فَصْــــل

أما أداء الأمانات ففيه نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ الولايات‏:‏ وهو كان سبب نزول الآية‏.‏

فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة، طلبها منه العباس؛ ليجمع له بين سقاية الحاج، وسدانة البيت، فأنزل الله هذه الآية، فدفع مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة‏.‏ فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ولي من أمر المسلمين شيئًا، فولي رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏من ولي رجلاً على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضي لله منه، فقد / خان الله ورسوله وخان المؤمنين‏)‏ رواه الحاكم في صحيحه‏.‏ وروي بعضهم أنه من قول عمر لابن عمر، روي ذلك عنه‏.‏ وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه‏:‏ من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولي رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين‏.‏ وهذا واجب عليه‏.‏

فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة، ونحوهم، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر الصغار والكبار، وولاة الأموال من الوزراء، والكتاب، والشادين، والسعاة على الخراج والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين‏.‏ وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين، والمقرئين، والمعلمين، وأمراء الحاج، والبرد، والعيون الذين هم القصاد، وخزان الأموال، وحراس الحصون، والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن، ونقباء العساكر الكبار والصغار، وعرفاء القبائل والأسواق، ورؤساء القري الذين هم ‏[‏الدهاقين‏]‏‏.‏

فيجب على كل من ولي شيئًا من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية، أو سبق في الطلب، /بل يكون ذلك سببًا للمنع، فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن قومًا دخلوا عليه فسألوه ولاية، فقال‏:‏ ‏(‏إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه‏)‏‏.‏ وقال لعبد الرحمن ابن سمرة‏:‏ ‏(‏يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة، أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة، وكلت إليها‏)‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من طلب القضاء واستعان عليه، وكل إليه،ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه، أنزل الله عليه ملكًا يسدده‏)‏‏.‏ رواه أهل السنن‏.‏

فإن عدل عن الأحق والأصلح إلى غيره؛ لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو مرافقة في بلد أو مذهب، أو طريقة، أو جنس‏:‏ كالعربية، والفارسية، والتركية، والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهى عنه في قوله تعإلى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏27، 28‏]‏‏.‏

فإن الرجل لحبه لولده، أو لعتيقه، قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه، فيكون قد خان أمانته، وكذلك قد يؤثره زيادة في /ماله أو حفظه، بأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله، وخان أمانته‏.‏

ثم إن المؤدي للأمانة ـ مع مخالفة هواه ـ يثبته الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله، ويذهب ماله‏.‏ وفي ذلك الحكاية المشهورة‏:‏ أن بعض خلفاء بني العباس، سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك، فقال‏:‏ أدركت عمر بن عبد العزيز، قيل له‏:‏ يا أمير المؤمنين، أقفرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم ـ وكان في مرض موته ـ فقال‏:‏ أدخلوهم على، فأدخلوهم، وهم بضعة عشر ذكرًا، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال لهم‏:‏ يا بني والله ما منعتكم حقًا هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين‏:‏ إما صالح، فالله يتولي الصالحين، وإما غير صالح، فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني‏.‏ قال‏:‏ فلقد رأيت بعض بنيه، حمل على مائة فرس في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها‏.‏

قلت‏:‏ هـذا وقـد كـان خليفة المسلمين، مـن أقصي المشرق ـ بـلاد الترك ـ إلى أقصي المغرب ـ بلاد الأندلس ـ وغيرها ومن جزائر قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها، إلى أقصي إلىمن‏.‏ وإنما أخذ كل واحد من أولاده من تركته شيئًا يسيرًا، يقال‏:‏ أقل من /عشرين درهماً‏.‏ قال‏:‏ وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه، فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار، ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس ـ أي‏:‏ يسألهم بكفه ـ وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان، والمسموعة عما قبله، ما فيه عبرة لكل ذي لب‏.‏

وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع‏:‏ مثل ما تقـدم، ومثل قوله لأبي ذر ـ رضي الله عنه ـ في الإمارة‏:‏ ‏(‏إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدي الذي عليه فيها‏)‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ وروي البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، وما إضاعتها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة‏)‏‏.‏ وقد أجمع المسلمون على معني هذا، فإن وصي التيم، وناظر الوقف، ووكيل الرجل في ماله، عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح، كما قال الله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏34‏]‏‏.‏ ولم يقل‏:‏ إلا بالتي هي حسنة‏.‏

وذلك لأن الوإلى راع على الناس، بمنزلة راعي الغنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، /فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها، والوالد راع في مال أبيه، وهو مسؤول عن رعيته، والعبد راع في مال سيده، وهو مسؤول عن رعيته، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته‏)‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من راع يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه رائحة الجنة‏)‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏

ودخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان، فقال‏:‏ السلام عليك أيها الأجير، فقالوا‏:‏ قل‏:‏ السلام عليك أيها الأمير‏.‏ فقال‏:‏ السلام عليك أيها الأجير‏.‏ فقالوا‏:‏ قل‏:‏ السلام عليك أيها الأمير‏.‏ فقال‏:‏ السلام عليك أيها الأجير‏.‏ فقالوا‏:‏ قل‏:‏ السلام عليك أيها الأمير‏.‏ فقال‏:‏ السلام عليك أيها الأجير‏.‏ فقال معاوية‏:‏ دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول‏.‏ فقال‏:‏ إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هنأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخراها، وفاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها‏.‏

وهذا ظاهر في الاعتبار، فإن الخلق عباد الله، والولاة نواب الله على عباده، وهم وكلاء العباد على نفوسهم، بمنزلة أحد الشريكين مع /الآخر، ففيهم معني الولاية والوكالة، ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلاً، وترك من هو أصلح للتجارة أو العقار منه، وباع السلعة بثمن، وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن، فقد خان صاحبه، لاسيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قرابة، فإن صاحبه يبغضه ويذمه، ويري أنه قد خانه وداهن قريبه أو صديقه‏.‏

 

فَصْـــل

إذا عرف هذا، فليس عليه أن يستعمل إلا أصلح الموجود،وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذه للولاية بحقها، فقد أدي الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله، وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره، إذا لم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول‏:‏‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، ويقول‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقال في الجهاد في سبيل الله‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 84‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عليكمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 105‏]‏، فمن أدي الواجب المقدور عليه فقد اهتدي، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا /منه ما استطعتم‏)‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏لكن إن كان منه عجز بلا حاجة إليه، أو خيانة، عوقب على ذلك‏.‏ وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان‏:‏ القوة، والأمانة‏.‏ كما قال تعإلى‏:‏ ‏{‏إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 26‏]‏، وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏إنَّكّ بًيوًمّ لّدّينّا مّكٌينِ أّمٌينِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 45‏]‏، وقال ـ تعإلى ـ في صفة جبريل‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19، 21‏]‏‏.‏

والقوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها؛ فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال، من رمي وطعن وضرب، وركوب، وكر،وفر، ونحو ذلك؛ كما قال الله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ارمـوا واركبوا، وإن ترموا أحب إلى من أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه، فليس منا‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏فهي نعمة جحدها‏)‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏

والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام‏.‏

والأمانة ترجع إلى خشية الله،وألا يشتري بآياته ثمنًا قليلاً، /وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل من حكم على الناس، في قوله تعإلى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار، وقاض في الجنة‏:‏ فرجل علم الحق وقضي بخلافه، فهو في النار‏.‏ ورجل قضي بين الناس على جهل، فهو في النار‏.‏ ورجل علم الحق وقضي به، فهو في الجنة‏)‏‏.‏ رواه أهل السنن‏.‏

والقاضي اسم لكل من قضي بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة، أو سلطانًا، أو نائبًا، أو وإلىا، أو كان منصوبًا ليقضي بالشرع، أو نائبًا له، حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط‏.‏ إذا تخايروا‏.‏ هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ظاهر‏.‏

 فصــل

اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول‏:‏ اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة‏.‏ فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها‏.‏ فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما / ضررًا فيها،فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع ـ وإن كان فيه فجور ـ على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينًا، كما سئل الإمام أحمد، عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزي‏؟‏ فقال‏:‏ أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزي مع القوي الفاجر‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر‏)‏‏.‏ وروي‏:‏ ‏(‏بأقوام لا خلاق لهم‏)‏‏.‏ وإن لم يكن فاجرًا، كان أولي بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده‏.‏

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال‏:‏ ‏(‏إن خالدًا سيف سله الله على المشركين‏)‏‏.‏ مع أنه أحيانًا قد كان يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه مرة قام ثم رفع يديه إلى السماء وقال‏:‏ ‏(‏اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد‏)‏، لما أرسله إلى بني جذيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتى وداهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل‏.‏

/وكان أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم‏)‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية؛ لأنه رآه ضعيفًا‏.‏ مع أنه قد روي‏:‏ ‏(‏ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر‏)‏‏.‏

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ـ استعطافًا لأقاربه الذين بعثه إليهم ـ على من هم أفضل منه‏.‏ وأمر أسامة بن زيد؛ لأجل طلب ثأر أبيه‏.‏ وكذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان‏.‏

وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنه ـ ما زال يستعمل خالدًا في حرب أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوي، فلم يعزله من أجلها، بل عاتبه عليها؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه، لأن المتولي الكبير إذا كان خلقه يميل إلى اللين، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة، وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة، فينبغي /أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين، ليعتدل الأمر‏.‏

ولهذا كان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يؤثر استنابة خالد، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يؤثر عزل خالد، واستنابة أبي عبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ لأن خالدًا كان شديدًا، كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان لينًا كأبي بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه؛ ليكون أمره معتدلا، ويكون بذلك من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو معتدل، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا نبي الرحمة، أنا نبي الملحمة‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏أنا الضحوك القتال‏)‏‏.‏ وأمته وسط قال الله ـ تعإلى ـ فيهم‏:‏ ‏{‏أَشِدَّاء على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، وقال تعإلى‏:‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏

ولهذا لما تولي أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ صارا كاملين في الولاية، واعتدل منهما ما كان ينسبان فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من لين أحدهما وشدة الآخر، حتى قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏‏.‏ وظهر من أبي بكر من شجاعة القلب في قتال أهل الردة وغيرهم ما برز به على عمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد، قدم الأمين، مثل /حفظ الأموال ونحوها، فأما استخراجها وحفظها، فلابد فيه من قوة وأمانة، فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته‏.‏ وكذلك في إمارة الحرب، إذا أمر الأمير بمشاورة أهل العلم والدين جمع بين المصلحتىن، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد، فلابد من ترجيح الأصلح، أو تعدد المولي، إذا لم تقع الكفاية بواحد تام‏.‏

ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ؛ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم ـ فيما قد يظهر حكمه، ويخاف فيه الهوي ـ الأورع، وفيما يدق حكمه، ويخاف فيه الاشتباه الأعلم‏.‏ ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات‏)‏‏.‏

ويقدمان على الأكفأ، إن كان القاضي مؤيدا تأييدًا تامًا، من جهة وإلى الحرب، أو العامة‏.‏

ويقدم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي، أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع؛ فإن القاضي المطلق يحتاج أن يكون عالماً عادلاً قادرًا‏.‏ بل وكذلك كل والٍ للمسلمين، فأي صفة من هذه الصفات نقصت، ظهر الخلل بسببه، والكفاءة‏:‏ إما بقهر ورهبة، /وإما بإحسان ورغبة، وفي الحقيقة فلابد منهما‏.‏

وسئل بعض العلماء‏:‏ إذا لم يوجد من يولي القضاء إلا عالم فاسق، أو جاهل دين، فأيهما يقدم‏؟‏ فقال‏:‏ إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد، قدم الدين‏.‏ وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات، قدم العالم‏.‏ وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين؛ فإن الأئمة متفقون على أنه لابد في المتولي، من أن يكون عدلا أهلا للشهادة، واختلفوا في اشتراط العلم‏:‏ هل يجب أن يكون مجتهدًا، أو يجوز أن يكون مقلدًا، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل، كيفما تيسر‏؟‏ على ثلاثة أقوال، وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع‏.‏

ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة، إذا كان أصلح الموجود فيجب مع ذلك السعي فـي إصـلاح الأحـوال، حتى يكمـل في الناس مـا لابـد لهـم منـه، مـن أمـور الولايـات والإمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه، وكما يجب الاستعداد للجهاد، بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بخلاف الاستطاعة في الحج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها؛ لأن الوجوب هنا لا يتم إلا بها‏.‏

/ فَـصــل

وأهم ما في هذا الباب معرفة الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود، فإذا عرفت المقاصد والوسائل، تم الأمر‏.‏ فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا دون الدين، قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد، وكان من يطلب رئاسة نفسه، يؤثر تقديم من يقيم رئاسته، وقد كانت السنة أن الذي يصلى بالمسلمين الجمعة، والجماعة ويخطب بهم هم أمراء الحرب، الذين هم نواب ذي السلطان على الأجناد؛ ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة، قدمه المسلمون في إمارة الحرب وغيرها‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على حرب، كان هو الذي يؤمره للصلاة بأصحابه، وكذلك إذا استعمل رجلا نائبا على مدينة، كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان ابن أبي العاص على الطائف، وعليا ومعاذًا وأبا موسى على إلىمن، وعمرو بن حزم على نجران، كان نائبه هو الذي يصلى بهم، ويقيم /فيهم الحدود وغيرها مما يفعله أمير الحرب، وكذلك خلفاؤه بعده، ومن بعدهم من الملوك الأمويين وبعض العباسيين؛ وذلك لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد؛ ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضًا يقول‏:‏ ‏(‏اللهم اشف عبدك، يشهد لك صلاة، وينكأ لك عدوًا‏)‏‏.‏

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى إلىمن قال‏:‏ ‏(‏يا معاذ إن أهم أمرك عندي الصلاة‏)‏‏.‏

وكذلك كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يكتب إلى عماله‏:‏ إن أهم أموركم عندي الصلاة؛ فمن حافظ عليها وحفظها، حفظ دينه‏.‏ ومن ضيعها، كان لما سواها من عمله أشد إضاعة‏.‏

وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الصلاة عماد الدين‏)‏‏.‏ فإذا أقام المتولي عماد الدين، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات، كما قال الله تعإلى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ على الْخَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏، وقال ـ سبحانه وتعإلى‏:‏ ‏{‏يّا أّّيٍَهّا بَّذٌينّ آمّنٍوا \سًتّعٌينٍوا بًالصَّبًرٌ $ّالصَّلاةٌ إنَّ بلَّهّ مّعّ بصَّابٌرٌينّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 153‏]‏، وقال لنبيه‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عليها لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏، وقال / تعإلى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمتينُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏:‏ 58‏]‏ ‏.‏

فالمقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم‏.‏ وهو نوعان‏:‏ قسم المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين‏.‏ فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول‏:‏ إنما بعثت عمإلى إليكم ليعلموكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيأكم‏.‏ فلما تغيرت الرعية من وجه، والرعاة من وجه، تناقضت الأمور‏.‏ فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان، كان من أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله، فقد روي‏:‏ ‏(‏يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة‏)‏‏.‏ وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغضهم إليه إمام جائر‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه،ورجل ذكر الله خإلىا ففاضت/ عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال‏:‏ إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أهل الجنة ثلاثة‏:‏ ذو سلطان مقسط، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربي ومسلم، ورجل غني عفيف متصدق‏)‏‏.‏ وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الساعي على الصدقة بالحق كالمجاهد في سبيل الله‏)‏، وقد قال الله ـ تعإلى ـ لما أمر بالجهاد ‏:‏‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏ وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله‏)‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله‏:‏ اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، وهكذا قال الله تعإلى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏، فالمقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، أن يقـوم الناس بالقسط فـي حقوق الله، وحقوق خلقه، ثم قال تعإلى‏:‏ / ‏{‏وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏‏.‏ فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد؛ ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف‏.‏ وقد روي عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا ـ يعني السيف ـ من عدل عن هذا ـ يعني المصحف ـ فإذا كان هذا هو المقصود، فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب، وينظر إلى الرجلين، أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي، فإذا كانت الولاية ـ مثلا ـ إمامة صلاة فقط، قدم من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال‏:‏ ‏(‏يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنًا، ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يجلس في بيته على تكرمته إلا بإذنه‏)‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏ فإذا تكافأ رجلان، وخفي أصلحهما، أقرع بينهما، كما أقرع سعد بن أبي وقاص بين الناس يوم القادسية، لما تشاجروا على الأذان؛ متابعة لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا‏)‏‏.‏ فإذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر، وبفعله ـ وهو ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر ـ كان المتولي قد أدي الأمانات في الولايات إلى أهلها‏.‏